فصل: تفسير الآية رقم (46)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

تقدم عند قوله‏:‏ ‏{‏فقال أحطت بما لم تحط به‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 22‏]‏ بيان وجه تطلب سليمان تحقيق صدق خبر الهدهد‏.‏ والنظر هنا نظر العقل وهو التأمُّل، لا سيما وإقحام ‏{‏كنتَ‏}‏ أدخل في نسبته إلى الكذب من صيغة ‏{‏أَصدقت‏}‏ لأن فعل ‏{‏كنتَ من الكاذبين‏}‏ يفيد الرسوخ في الوصف بأنه كائن عليه‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏من الكاذبين‏}‏ أشدّ في النسبة إلى الكذب بالانخراط في سلك الكاذبين بأن يكون الكذب عادة له‏.‏ وفي ذلك إيذان بتوضيح تهمته بالكذب ليتخلص من العقاب، وإيذان بالتوبيخ والتهديد وإدخال الروع عليه بأنَّ كذبه أرجح عند الملك ليكون الهدهد مغلِّباً الخوف على الرجاء، وذلك أدخل في التأديب على مثل فعلته وفي حرصه على تصديق نفسه بأن يبلغ الكتاب الذي يرسله معه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

الجملة مبيِّنة لجملة ‏{‏سننظر أصدقت أم كنتَ من الكاذبين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 27‏]‏ لأن فيما سينكشف بعد توجيه كتابه إلى ملكة سبأ ما يصدق خبر الهدهد إن جاء من الملكة جواب عن كتابه، أو يكذب خبر الهدهد إن لم يجئ منها جواب‏.‏ ألهم الله سليمان بحكمته أن يجعل لاتصاله ببلاد اليمن طريقَ المراسلة لإدخال المملكة في حيّز نفوذه والانتفاع باجتلاب خيراتها وجعلها طريق تجارة مع شرق مملكته فكتب إلى ملكة سبأ كتاباً لتأتيَ إليه وتدخلَ تحت طاعته وتُصلح ديانة قومها، وليعلَم أن الله ألقى في نفوس الملوك المعاصرين له رهبةً من ملكه وجلباً لمرضاته لأن الله أيّده وإن كانت مملكته أصغر من ممالك جيرانه مثل مملكة اليمن ومملكة مصر‏.‏ وكانت مملكة سليمان يومئذ محدودة بالأُردن وتخوم مصر وبحر الروم‏.‏ ولم يزل تبادل الرسائل بين الملوك من سنة الدول ومن سنة الدعاة إلى الخير‏.‏ وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر‏.‏ وقَد عظُم شأن الكتابة في دول الإسلام، قال الحريري في «المقامة الثانية والعشرين»‏:‏ «والمنشئ جهنية الأخبار، وحقيبة الأسرار، وقلمه لسان الدولة، وفارس الجَولة‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ‏.‏

واتخذ للمراسلة وسيلة الطير الزاجل من حَمام ونحوه، فالهدهد من فصيلة الحَمام وهو قابل للتدجين، فقوله‏:‏ ‏{‏اذهب بكتابي هذا‏}‏ يقتضي كلاماً محذوفاً وهو أن سليمان فكر في الاتصال بين مملكته وبين مملكة سبأ فأحضر كتاباً وحمَّله الهدهد‏.‏

وتقدم القول على ‏(‏ماذا‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم‏}‏ في سورة النحل ‏(‏24‏)‏‏.‏ وفعل ‏{‏انظر‏}‏ معلق عن العمل بالاستفهام‏.‏

والإلقاء‏:‏ الرمي إلى الأرض‏.‏ وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وألقُوه في غيابات الجب‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏10‏)‏ وهو هنا مستعمل إمّا في حقيقته إن كان شأن الهدهد أن يصل إلى المكان فيرميَ الكتاب من منقاره، وإما في مجازه إن كان يدخل المكان المرسل إليه فيتناول أصحابه الرسالة من رجله التي تربط فيها الرسالة فيكون الإلقاء مثل قوله‏:‏ ‏{‏فألْقَوا إليهم القول إنكم لكاذبون‏}‏ في سورة النحل ‏(‏86‏)‏‏.‏

والمراد بالرَّجع‏:‏ رَجع الجواب عن الكتاب، أي من قبول أو رفض‏.‏ وهذا كقوله الآتي‏:‏ ‏{‏فانظري ماذا تأمرين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 33‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

‏{‏قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ‏(‏29‏)‏ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏30‏)‏ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

طويت أخبار كثيرة دل عليها ما بين الخبرين المذكورين من اقتضاء عدة أحداث، إذ التقدير‏:‏ فذهب الهدهد إلى سبأ فرمى بالكتاب فأبلغ الكتاب إلى الملكة وهي في مجلس ملكها فقرأته، قالت‏:‏ يأيها الملأ إلخ‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قالت‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن غرابة قصة إلقاء الكتاب إليها يثير سؤالاً عن شأنها حين بلَغها الكتاب‏.‏

و ‏{‏الملأ‏}‏‏:‏ الجماعة من أشراف القوم وهم أهل مجلسها‏.‏ وظاهر قولها‏:‏ ‏{‏ألقي إليّ‏}‏ أن الكتاب سُلّم إليها دون حُضور أهل مجلسها‏.‏ وتقدم غير مرة وذلك أن يكون نظام بَلاطها أن تسلم الرسائل إليها رأساً‏.‏ والإلقاء تقدم آنفاً‏.‏

ووصف الكتاب بالكريم ينصرف إلى نفاسته في جنسه كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لهم مغفِرَة ورزق كريم‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏74‏)‏؛ بأن كان نفيسَ الصحيفة نفيسَ التخطيط بهيجَ الشكل مستوفياً كل ما جرت عادة أمثالهم بالتأنق فيه‏.‏ ومن ذلك أن يكون مختوماً، وقد قيل‏:‏ كرم الكتاب ختمه، ليكون ما في ضمنه خاصاً باطلاع من أُرسل إليه وهو يُطلع عليه من يشاء ويكتمه عمن يشاء‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ «الوصف بالكرم في الكتاب غاية الوصف؛ ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه لقرآن كريم‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 77‏]‏ وأهل الزمان يصفون الكِتاب بالخَطير، والأثير، والمبرور، فإن كان لملك قالوا‏:‏ العزيز، وأسقطوا الكريم غفلة وهو أفضلها خصلة»‏.‏

وأما ما يشتمل عليه الكتاب من المعاني فلم يكن محموداً عندها لأنها قالت‏:‏ ‏{‏إن الملوك إذا دَخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 34‏]‏‏.‏

ثم قصَّت عليهم الكتاب حين قالت‏:‏ ‏{‏إنه من سليمان وإنه‏}‏ إلى آخره‏.‏ فيحتمل أن يكون قد تُرجم لها قبل أن تخرج إلى مجلس مشُورتها، ويحتمل أن تكون عارفة بالعبرانية، ويحتمل أن يكون الكتاب مكتوباً بالعربية القحطانية، فإن عظمة ملك سليمان لا تخلو من كتَّاب عارفين بلغات الأمم المجاورة لمملكته، وكونه بلغته أظهر وأنسب بشعار الملوك، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم للملوك باللغة العربية‏.‏

أما الكلام المذكور في هذه الآية فهو ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية الفصحى بتضمين دقائقه وخصوصيات اللغة التي أنشئ بها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إنه من سليمان‏}‏ هو من كلام الملكة ابتدأت به مخاطَبة أهل مشُورتها لإيقاظ أفهامهم إلى التدبر في مغزاه لأن اللائق بسليمان أن لا يقدِّم في كتابه شيئاً قبل اسم الله تعالى، وأن معرفة اسم سليمان تؤخذ من ختمه وهو خارج الكتاب فلذلك ابتدأت به أيضاً‏.‏

والتأكيد ب ‏(‏إنَّ‏)‏ في الموضعين يترجم عما في كلامهما باللغة السبائية من عبارات دالة على اهتمامها بمُرسل الكتاب وبما تضمنه الكتاب اهتماماً يؤدَّى مثله في العربية الفصحى بحرف التأكيد الذي يدل على الاهتمام في مقام لا شك فيه‏.‏

وتكرير حرف ‏(‏إن‏)‏ بعد واو العطف إيماء إلى اختلاف المعطوف والمعطوف عليه بأن المراد بالمعطوف عليه ذاتُ الكتاب، والمرادَ بالمعطوف معناه وما اشتمل عليه، كما تقول‏:‏ إن فلاناً لحسن الطلعة وإنه لزكيّ‏.‏

وهذا من خصوصيات إعادة العامل بعد حرف العطف مع إغناء حرف العطف عن ذكر العامل، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمرِ منكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏، أعيد ‏{‏أطيعوا‏}‏ لاختلاف معنى الطاعتين، لأن طاعة الله تنصرف إلى الأعمال الدينية، وطاعة الرسول مراد بها طاعته في التصرفات الدنيوية، ولذلك عُطف على الرسول أولو الأمر من الأمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إنه من سليمان‏}‏ حكاية لمقالها، وعرفت هي ذلك من عنوان الكتاب بأعلاه أو بظاهره على حسب طريقة الرسائل السلطانية في ذلك العهد في بني إسرائيل، مثل افتتاح كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك بجملة‏:‏ «مِن محمد رسول الله»‏.‏

وافتتاح الكتاب بجملة البسملة يدل على أن مرادفها كان خاصاً بكُتُب النبي سليمان أن يُتبع اسم الجلالة بوصفي‏:‏ الرحمان الرحيم، فصار ذلك سنة لافتتاح الأمور ذوات البال في الإسلام ادخره الله للمسلمين من بقايا سنة الأنبياء بعد أن تنوسي ذلك فإنه لم يعرف أن بني إسرائيل افتتحوا كتبهم باسم الله الرحمن الرحيم‏.‏

روى أبو داود في كتاب «المراسيل»‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب «باسمك اللهم» كما كانت قريش تكتب، فلما نزلتْ هذه الآية صار يكتب «بسم الله الرحمن الرحيم»، أي صار يكتب البسملة في أول كتبه‏.‏ وأما جعلها فصلاً بين السور أو آية من كل سورة فمسألة أخرى‏.‏

وكان كتاب سليمان وجيزاً لأن ذلك أنسب بمخاطبة من لا يحسن لغة المخاطب فيقتصر له على المقصود لإمكان ترجمته وحُصول فهمه فأحاط كتابه بالمقصود، وهو تحذير ملكة سبأ من أن تحاول الترفع على الخضوع إلى سليمان والطاعة له كما كان شأن الملوك المجاورين له بمصر وصور والعراق‏.‏

فالإتيان المأمور به في قوله‏:‏ ‏{‏وأتوني مسلمين‏}‏ هو إتيان مجازي مثل ما يقال‏:‏ اتبع سبيلي‏.‏

و ‏{‏مسلمين‏}‏ مشتق من أسلم إذا تقلد الإسلام‏.‏ وإطلاق اسم الإسلام على الدين يدل على أن سليمان إنما دعا ملكة سبأ وقومها إلى نبذ الشرك والاعتراف لله بالإلهية والوحدانية ولم يدعهم إلى اتباع شريعة التوراة لأنهم غير مخاطبين بها وأما دعوتهم إلى إفراد الله بالعبادة والاعتراف له بالوحدانية في الإلهية فذلك مما خاطب الله به البشر كلهم وشاع ذلك فيهم من عهد آدم ونوح وإبراهيم‏.‏ وقد بيّنا ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تموتُنّ إلا وأنتم مسلمون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏132‏)‏، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 60‏]‏‏.‏ جمع سليمان بين دعوتها إلى مسالمته وطاعته وذلك تصرف بصفة الملك، وبين دعوة قومها إلى اتباع دين التوحيد وذلك تصرف بالنبوءة لأن النبي يلقي الإرشاد إلى الهُدى حيثما تمكَّن منه كما قال شعيب

‏{‏إنْ أريد إلا الإصلاح ما استطعتُ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 88‏]‏ وهذا نظير قول يوسف لصاحبي السجن ‏{‏أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 39‏]‏ الآية‏.‏ وإن كان لم يرسل إليهم، فالأنبياء مأمورون أمراً عاماً بالإرشاد إلى الحق، وكذلك دعاء سليمان هنا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من حُمْر النعم ‏"‏ فهذه سنة الشرائع لأن الغاية المهمة عندها هو إصلاح النفوس دون التشفي وحب الغلبة‏.‏

وحرف ‏(‏أنْ‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏أن لا تعلوا عليّ‏}‏ في موقعه غموض لأن الظاهر أنه مما شمله كتاب سليمان لوقوعه بعد البسملة التي هي مبدأ الكتاب‏.‏ وهذا الحرف لا يخلو من كونه ‏(‏أن‏)‏ المصدرية الناصبة للمضارع، أو المخففة من الثقيلة، أو التفسيرية‏.‏

فأما معنى ‏(‏أَنْ‏)‏ المصدرية الناصبة للمضارع فلا يتضح لأنها تستدعي عاملاً يكون مصدرُها المنسبك بها معمولاً له وليس في الكلام ما يصلح لذلك لفظاً مطلقاً ولا معنى إلا بتعسف، وقد جوزه ابن هشام في «مغني اللبيب» في بحث ‏(‏أَلاّ‏)‏ الذي هو حرف تحضيض وهو وجهة شيخنا محمد النجار رحمه الله بأن يُجعل ‏{‏أن لا تعلوا‏}‏ إلخ خبراً عن ضمير ‏{‏كتاب‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وإنه‏}‏ فحيث كان مضمون الكتاب النهيَ عن العلو جُعل ‏{‏أن لا تعلوا‏}‏ نفسَ الكتاب كما يقع الإخبار بالمصدر‏.‏ وهذا تكلف لأنه يقتضي الفصل بين أجزاء الكتاب بقوله‏:‏ ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏‏.‏

وأما معنى المخففة من الثقيلة فكذلك لوجوب سدّ مصدر مسدّها وكونها معمولة لعامل، وليس في الكلام ما يصلح لذلك أيضاً‏.‏ وقد ذكر وجهاً ثالثاً في الآية في بعض نسخ «مغني اللبيب» في بحث ‏(‏أَلاَّ‏)‏ أيضاً ولم يوجد في النسخ الصحيحة من «المغني» ولا من «شروحه» ولعله من زيادات بعض الطلبة‏.‏ وقد اقتصر في «الكشاف» على وجه التفسيرية لعلمه بأن غير ذلك لا ينبغي أن يفرض‏.‏ وأعقبه بما روي من نسخة كتاب سليمان ليظهر أن ليس في كتاب سليمان ما يقابل حرف ‏(‏أنْ‏)‏ فلذلك تتعين ‏(‏أنْ‏)‏ لمعنى التفسيرية لضمير ‏{‏وإنه‏}‏ العائد إلى ‏{‏كتاب‏}‏ كما علمته آنفاً لأنه لما كان عائداً إلى ‏{‏كتاب‏}‏ كان بمعنى معاده فكان مما فيه معنى القول دون حروفه فصح وقع ‏(‏أَنْ‏)‏ بعده فيكون ‏(‏أَنْ‏)‏ من كلام ملكة سبأ فَسَّرَتْ بها وبما بعدها مضمون ‏{‏كتاب‏}‏ في قولها‏:‏ ‏{‏ألقى إلى كتاب كريم‏}‏‏.‏

و ‏{‏ألا تعلوا عليّ‏}‏ يكون هو أول كتاب سليمان، وأنها حكاية لكلام بلقيس‏.‏ قال في «الكشف» يتبين أن قوله‏:‏ ‏{‏إنه من سليمان‏}‏ بيان لعنوان الكتاب وأن قوله‏:‏ ‏{‏وإنه بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏ إلخ بيان لمضمون الكتاب فلا يرد سؤال كيف قدم قوله‏:‏ ‏{‏إنه من سليمان‏}‏ على ‏{‏إنه بسم الله الرحمن الرحيم‏}‏‏.‏ ولم تزل نفسي غير منثلجة لهذه الوجوه في هذه الآية ويخطر ببالي أن موقع ‏(‏أَنْ‏)‏ هذه استعمال خاص في افتتاح الكلام يعتمد عليه المتكلم في أول كلامه‏.‏

وأنها المخففة من الثقيلة‏.‏ وقد رأيتُ في بعض خطب النبي صلى الله عليه وسلم الافتتاح ب ‏(‏أنْ‏)‏ في ثاني خُطبة خطبها بالمدينة في «سيرة ابن إسحاق»‏.‏ وذكر السهيلي‏:‏ أَنَّ الحمدُ، مضبوط بضمة على تقدير ضمير الأمر والشأن‏.‏ ولكن كلامه جرى على أن حرف ‏(‏إن‏)‏ مكسور الهمزة مشدد النون‏.‏ ويظهر لي أن الهمزة مفتوحة وأنه استعمال ل ‏(‏أنْ‏)‏ المخففة من الثقيلة في افتتاح الأمور المهمة وأن منه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 10‏]‏‏.‏

و ‏{‏ألا تعلوا عليّ‏}‏ نهي مستعمل في التهديد ولذلك أتبعته ملكة سبأ بقولها‏:‏ ‏{‏يأيها الملأ أفتوني في أمري‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 32‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

سألتْهم إبداء آرائهم ماذا تعمل تجاه دعوة سليمان‏.‏ والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً مثل التي قبلها‏.‏

والإفتاء‏:‏ الإخبار بالفَتوى وهي إزالة مشكل يعرض‏.‏ وقد تقدمت عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان‏}‏ في سورة يوسف ‏(‏41‏)‏‏.‏

والأمر‏:‏ الحال المهم، وإضافته إلى ضميرها لأنها المخاطبة بكتاب سليمان ولأنها المضطلعة بما يجب إجراؤه من شؤون المملكة وعليها تبعة الخطأ في المنهج الذي تسلكه من السياسة، ولذلك يقال للخليفة وللملك وللأمير ولعالم الدين‏:‏ وَليُّ الأمر‏.‏ وبهذه الثلاثة فُسِّر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏‏.‏ وقال الراعي يخاطب عبد الملك بن مروان‏:‏

أَوَليَّ أمرِ اللَّه إنا مَعشر *** حُنفاء نسجد بكرة وأصيلاً

فهذا معنى قولهم لها‏:‏ ‏{‏والأمرُ إليك‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وقد أفادت إضافة ‏{‏أمري‏}‏ تعريفاً، أي في الحادثة المعيَّنة‏.‏

ومعنى ‏{‏قاطعة أمراً‏}‏ عاملةً عملاً لا تردد فيه بالعزم على ما تجيب به سليمان‏.‏

وصيغة ‏{‏كنت قاطعة‏}‏ تؤذن بأن ذلك دأبها وعادتها معهم، فكانت عاقلة حكيمة مستشيرة لا تخاطر بالاستبداد بمصالح قومها ولا تعرِّض ملكها لمهاوي أخطاء المستبدين‏.‏

والأمر في ‏{‏ما كنت قاطعة أمراً‏}‏ هو أيضاً الحال المهم، أي أنها لا تقضي في المهمات إلا عن استشارتهم‏.‏

و ‏{‏تَشهدون‏}‏ مضارع شَهِد المستعمل بمعنى حَضر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏، أي حتى تَحْضُرون‏.‏ وشهد هذا يتعدى بنفسه إلى كل ما يحضر فاعل الفعل عنده من مكان وزمان واسم ذات، وذلك تعدّ على التوسع لكثرته، وحق الفعل أن يُعدى بحرف الجر أو يعلق به ظرف‏.‏ يقال‏:‏ شهد عند فلان وشهد مجلس فلان‏.‏ ويقال‏:‏ شهد الجمعة‏.‏ وفعل ‏{‏تشهدون‏}‏ هنا مستعمل كناية عن المشاورة لأنها يلزمها الحضور غالباً إذ لا تقع مشاورة مع غائب‏.‏

والنون في ‏{‏تشهدون‏}‏ نون الوقاية وحذفت ياء المتكلم تخفيفاً وألقيت كسرة النون المجتلبة لوقاية الحرف الأخير من الفعل عن أن يكون مكسوراً، ونون الوقاية دالة على المحذوف‏.‏

وقرأه الجمهور بحذف الياء وصلاً ووقفاً‏.‏ وقرأ يعقوب بإثبات الياء وصلاً ووقفاً‏.‏

وفي قولها‏:‏ ‏{‏حتى تشهدون‏}‏ كناية عن معنى‏:‏ توافقوني فيما أقطعه، أي يصدر منها في مقاطع الحقوق والسياسة‏:‏ إما بالقول كما جرى في هذه الحادثة، وإما بالسكوت وعدم الإنكار لأن حضور المعدود للشورى في مكان الاستشارة مغن عن استشارته إذ سكوته موافقة‏.‏ ولذلك قال فقهاؤنا‏:‏ إن على القاضي إذا جلس للقضاء أن يقضي بمحضر أهل العلم، أو مشاورتهم‏.‏ وكان عثمان يقضي بمحضر أهل العلم وكان عُمر يستشيرهم وإن لم يَحضروا‏.‏ وقال الفقهاء‏:‏ إن سكوتهم مع حضورهم تقرير لحكمه‏.‏

وليس في هذه الآية دليل على مشروعية الشورى لأنها لم تحك شَرعاً إلهياً ولا سيق مساق المدح، ولكنه حكاية ما جَرى عند أمة غير متدينة بوحي إلهي؛ غير أن شأن القرآن فيما يذكره من القَصص أن يذكر المهم منها للموعظة أو للإسوة كما قدمناه في المقدمة السابعة‏.‏ فلذلك يستروح من سياق هذه الآية حسن الشورى‏.‏ وتقدم ذكر الشورى في سورة آل عمران‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

جواب بأسلوب المحاورة فلذلك فُصل ولم يعطف كما هي طريقة المحاورات‏.‏ أرادوا من قولهم‏:‏ نحن، جماعة المملكة الذين هم من أهل الحرب‏.‏ فهو من إخيار عرفاء القوم عن حال جماعاتهم ومن يفوض أمرهم إليهم‏.‏ والقوة‏:‏ حقيقتها ومجازها تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فخذها بقوة‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏145‏)‏‏.‏ وأطلقت على وسائل القوة كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة‏}‏ في سورة الأنفال ‏(‏60‏)‏، أي وسائل القدرة على القتال والغلبة، ومن القوة كثرة القادرين على القتال والعارفين بأساليبه‏.‏

والبأسُ‏:‏ الشدة على العدوّ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والصابرين في البأساء والضراء وحينَ البأس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ أي في مواقع القتال، وقال‏:‏ ‏{‏بأسهم بينهم شديد‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 14‏]‏، وهذا الجواب تصريح بأنهم مستعدون للحرب للدفاع عن ملكهم وتعريض بأنهم يميلون إلى الدفع بالقوة إن أراد أن يكرههم على الدخول تحت طاعته لأنهم حملوا ما تضمنه كتابه على ما قد يفضي إلى هذا‏.‏

ومع إظهار هذا الرأي فوّضوا الأمر إلى الملكة لثقتهم بأصالة رأيها لتنظر ما تأمرهم فيمتثلونه، فحذف مفعول ‏{‏تأمرين‏}‏ ومتعلقه لظهورهما من المقام، والتقدير‏:‏ ما تأمريننا به، أي إن كان رأيك غير الحرب فمُري به نُطعك‏.‏

وفعل ‏{‏انظري‏}‏ معلق عن العمل بما بعده من الاستفهام وهو ‏{‏ماذا تأمرين‏}‏‏.‏

وتقدم الكلام على ‏{‏ماذا‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم‏}‏ في سورة النحل ‏(‏24‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏

‏{‏قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ‏(‏34‏)‏ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏قالت‏}‏ جواب محاورة فلذلك فُصل‏.‏

أبدت لهم رأيها مفضِّلةً جانب السلم على جانب الحرب، وحاذرة من الدخول تحت سلطة سليمان اختياراً لأن نهاية الحرب فيها احتمال أن ينتصر سليمان فتصير مملكة سبأ إليه، وفي الدخول تحت سلطة سليمان إلقاء للمملكة في تصرفه، وفي كلا الحالين يحصل تصرف مَلك جديد في مدينتها فعلمت بقياس شواهد التاريخ وبخبرة طبائع الملوك إذا تصرفوا في مملكة غيرهم أن يقلبوا نظامها إلى ما يساير مصالحهم واطمئنان نفوسهم من انقلاب الأمة المغلوبة عليهم في فُرص الضعف أو لوائح الاشتغال بحوادث مهمة، فأول ما يفعلونه إقصاء الذين كانوا في الحكم لأن الخطر يتوقع من جانبهم حيث زال سلطانهم بالسلطان الجديد، ثم يبدلون القوانين والنظم التي كانت تسير عليها الدولة، فأما إذا أخذوها عنوة فلا يخلو الأخذ من تخريب وسبي ومغانم، وذلك أشد فساداً‏.‏ وقد اندرج الحالان في قولها ‏{‏إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة‏}‏‏.‏

وافتتاح جملة‏:‏ ‏{‏إن الملوك‏}‏ بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر وتحقيقه، فقولها ‏{‏إذا دخلوا قرية أفسدوها‏}‏ استدلال بشواهد التاريخ الماضي ولهذا تكون ‏{‏إذا‏}‏ ظرفاً للماضي بقرينة المقام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 11‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 92‏]‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وكذلك يفعلون‏}‏ استدلال على المستقبل بحكم الماضي على طريقة الاستصحاب وهو كالنتيجة للدليل الذي في قوله‏:‏ ‏{‏إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها‏}‏‏.‏ والإشارة إلى المذكور من الإفساد وجَعْللِ الأعزة أذلة، أي فكيف نلقي بأيدينا إلى من لا يألو إفساداً في حالنا‏.‏

فدبرت أن تتفادى من الحرب ومن الإلقاء باليد، بطريقة المصانعة والتزلف إلى سليمان بإرسال هدية إليه، وقد عزمت على ذلك ولم تستطلع رأي أهل مشورتها لأنهم فوضوا الرأي إليها، ولأن سكوتهم على ما تخبرهم به يُعدّ موافقة ورضى‏.‏

وهذا الكلام مقدمة لما ستلقيه إليهم من عزمها، ويتضمن تعليلاً لما عزمت عليه‏.‏

والباء في ‏{‏بهدية‏}‏ باء المصاحبة‏.‏ ومفعول ‏{‏مرسلة‏}‏ محذوف دل عليه وصف ‏{‏مرسلة‏}‏ وكون التشاور فيما تضمنه كتاب سليمان‏.‏ فالتقدير‏:‏ مرسلة إليهم كتاباً ووَفداً مصحوباً بهدية إذ لا بد أن يكون الوفد مصحوباً بكتاب تجيب به كتاب سليمان فإن الجواب عن الكتاب عادة قديمة، وهو من سنن المسلمين، وعدّ من حق المسلم على المسلم، قال القرطبي‏:‏ إذا ورد على إنسان في كتاب بالتحية أو نحوها ينبغي أن يَرد الجواب لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجباً كرد السلام اه‏.‏ ولم أقف على حكم فيه من مذاهب الفقهاء‏.‏ والظاهر أن الجواب إن كان عن كتاب مشتمل على صيغة السلام أن يكون رد الجواب واجباً وأن يشتمل على رد السلام لأن الرد بالكتابة يقاس على الرد بالكلام مع إلغاء فارق ما في المكالمة من المواجهة التي يكون ترك الرد معها أقرب لإلقاء العداوة‏.‏

ولم أر في كتب النبي صلى الله عليه وسلم جواباً عن كتاب إلا جوابه عن كتاب مسيلمة والسلام على من اتّبع الهدى‏.‏

والهدية‏:‏ فعيلة من أهدى‏:‏ فالهدية ما يعطَى لقصد التقرب والتحبب، والجمع هَدايا على اللغة الفصحى، وهي لغة سُفلَى مَعَدَ‏.‏ وأصل هدايا‏:‏ هدائيَ بهمزة بعد ألف الجمع ثم ياءٍ لأن فعيلة يجمع على فعائل بإبدال ياء فعيلة همزة لأنها حرف وقع في الجمع بعد حرف مدّ فلما وجدوا الضمة في حالة الرفع ثقيلة على الياء سكّنوا الياء طرداً للباب ثم قلبوا اليَاء الساكنة ألفاً للخفة فوقعت الهمزة بين ألفين فثقلت فقلبوها ياء لأنها مفتوحة وهي أخف، وأما لغة سُفلى معدّ فيقولون‏:‏ هَدَاوَى بقلب الهمزة التي بين الألفين واواً لأنها أخت الياء وكلتاهما أخت الهمزة‏.‏

و ‏{‏ناظرة‏}‏ اسم فاعل من نَظر بمعنى انتظَر، أي مترقبةٌ، فتكون جملة‏:‏ ‏{‏بم يرجع المرسلون‏}‏ مبيّنة لجملة ‏{‏فناظرة‏}‏، أو مستأنفة‏.‏ وأصل النظم‏:‏ فناظرة ما يرجع المرسلون به، فغير النظم لمَّا أريد أنها مترددة فيما يرجع به المرسلون‏.‏ فالباء في قوله‏:‏ ‏{‏بم يرجع المرسلون‏}‏ متعلقة بفعل ‏{‏يرجع‏}‏ قدمت على متعلَّقها لاقترانها بحرف ‏(‏ما‏)‏ الاستفهامية لأن الاستفهام له صدر الكلام‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏ناظرة‏}‏ من النظر العقلي، أي عالمة، وتعلقَ الباء بفعل ‏{‏يرجع‏}‏، وعلى كلا الوجهين ف ‏{‏ناظرة‏}‏ معلَّق عن العمل في مفعوله أو مفعوليه لوجود الاستفهام، ولا يجوز تعلق الباء ب ‏{‏ناظرة‏}‏ لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيما بعده فمن ثم غلطوا الحوفي في «تفسيره» لتعليقه الباء ب ‏{‏ناظرة‏}‏ كما في الجهة السادسة من الباب الخامس من «مغني اللبيب»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ‏(‏36‏)‏ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

أي فلما جاء الرسول الذي دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وإني مرسلة إليهم بهدية‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 35‏]‏، فالإرسال يقتضي رسولاً، والرسول لفظه مفرد ويصدق بالواحد والجماعة، كما تقدم في قصة موسى في سورة الشعراء‏.‏ وأيضاً فإن هدايا الملوك يحملها رَكب، فيجوز أن يكون فاعل ‏{‏جاء‏}‏ الركبُ المعهود في إرسال هدايا أمثال الملوك‏.‏

وقد أبى سليمان قبول الهدية لأن الملكة أرسلتها بعد بلوغ كتابه ولعلها سكتت عن الجواب عما تضمنه كتابه من قوله‏:‏ ‏{‏وأتوني مسلمين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 31‏]‏ فتبيّن له قصدُها من الهدية أن تصرفه عن محاولة ما تضمنه الكتاب، فكانت الهدية رشوة لتصرفه عن بثّ سلطانه على مملكة سبأ‏.‏

والخطاب في ‏{‏أتمدونن‏}‏ لوفد الهدية لقصد تبليغه إلى الملكة لأن خطاب الرسل إنما يقصد به من أرسلهم فيما يرجع إلى الغرض المرسل فيه‏.‏

والاستفهام إنكاري لأن حال إرسال الهدية والسكوت عن الجواب يقتضي محاولة صرف سليمان عن طلب ما طلبه بما بذل له من المال، فيقتضي أنهم يحسبونه محتاجاً إلى مثل ذلك المال فيقتنع بما وجّه إليه‏.‏

ويظهر أن الهدية كانت ذهباً ومالاً‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أتمدونني‏}‏ بنونين‏.‏ وقرأه حمزة وخلف بنون واحدة مشدّدة بالإدغام‏.‏ والفاء لتفريع الكلام الذي بعدها على الإنكار السابق، أي أنكرت عليكم ظنكم فرحي بما وجهتم إليّ لأنّ ما أعطاني الله خير مما أعطاكم، أي هو أفضل منه في صفات الأموال من نفاسة ووفرة‏.‏

وسَوق التعليل يشعر بأنه علم أن الملكة لا تعلم أن لدى سليمان من الأموال ما هو خير مما لديها، لأنه لو كان يظن أنها تعلم ذلك لما احتاج إلى التفريع‏.‏

وهذا من أسرار الفرق في الكلام البليغ بين الواو والفاء في هذه الجملة فلو قال‏:‏ وما آتاني الله خير مما آتاكم، لكان مُشعراً بأنها تعلم ذلك لأن الواو تكون واو الحال‏.‏

و ‏{‏بل‏}‏ للإضراب الانتقالي وهو انتقال من إنكاره عليهم إمداده بمال إلى رد ذلك المال وإرجاعه إليهم‏.‏

وإضافة ‏{‏هديتكم‏}‏ تشبيه؛ تحتمل أن تكون من إضافة الشيء إلى ما هو في معنى المفعول، أي بما تهدونه‏.‏ ويجوز أن يكون شبيهة بالإضافة إلى ما هو في معنى المفعول، أي بما يُهدى إليكم‏.‏ والخبر استعمل كناية عن رد الهدية للمهدي‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏تفرحون‏}‏ يجوز أن يكون تُسرُّون، ويجوز أن يكون تفتخرون، أي أنتم تعظم عندكم تلك الهدية لا أنا، لأن الله أعطاني خيراً منها‏.‏

وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في «أنتم تَفرحون» لإفادة القصر، أي أنتم‏.‏ وهو الكناية عن رد الهدية‏.‏

وتوعدهم وهددهم بأنه مرسل إليهم جيشاً لا قِبَل لهم بحربه‏.‏ وضمائر جمع الذكور الغائب في قوله‏:‏ ‏{‏فلنأتينهم‏}‏ و‏{‏لنخرجنهم‏}‏ عائدة إلى القوم، أي لنخرجن من نخرج من الأسرى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فلنأتينهم بجنود‏}‏ يحتمل أنه أراد غزو بلدها بنفسه، فتكون الباء للمصاحبة‏.‏ ويحتمل أنه أراد إرسال جنود لغزوها فتكون الباء للتعدية كالتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذهب الله بنورهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 17‏]‏ أي أذهبه؛ فيكون المعنى‏:‏ فلنؤتينهم جنوداً، أي نجعلها آتية إياهم‏.‏

والقِبَل‏:‏ الطاقة‏.‏ وأصله المقابلة فأطلق على الطاقة لأن الذي يُطيق شيئاً يثبت للقائه ويقابله‏.‏ فإذا لم يُطقه تقهقر عن لقائه‏.‏ ولعل أصل هذا الاستعمال ناظر إلى المقابلة في القتال‏.‏

والباء في ‏{‏بها‏}‏ للسببية، أي انتفى قِبلهم بسببها، أو تكون الباء للمصاحبة، أي انتفى قِبلهم المصاحب لها، أي للقدرة على لقائها‏.‏

وضمير ‏{‏بها‏}‏ للجنود وضمير ‏{‏منها‏}‏ للمدينة، وهي مأرب، أي يخرجهم أسرى ويأتي بهم إلى مدينته‏.‏

والصاغر‏:‏ الذليل، اسم فاعل من صغر بضم الغين المستعمل بمعنى ذل ومصدره الصغار‏.‏ والمراد‏:‏ ذل الهزيمة والأسر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ‏(‏38‏)‏ قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ‏(‏39‏)‏ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

استئناف ابتدائي لذكر بعض أجزاء القصة طوي خبر رجوع الرسل والهدية، وعلم سليمان أن ملكة سبأ لا يسعها إلا طاعته ومجيئها إليه، أو ورد له منها أنها عزمت على الحضور عنده عملاً بقوله‏:‏ ‏{‏وأتوني مسلمين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 31‏]‏‏.‏

ثم يحتمل أن يكون سليمان قال ذلك بعد أن حطت رحال الملكة في مدينة أورشليم وقبل أن تتهيَّأ للدخول على الملك، أو حين جاءه الخبَر بأنها شارفت المدينة فأراد أن يحضر لها عرشها قبل أن تدخل عليه ليُرِيَها مقدرة أهل دولته‏.‏

وقد يكون عرشها محمولاً معها في رحالها جاءت به معها لتجلس عليه خشية أن لا يهيئ لها سليمان عرشاً، فإن للملوك تقادير وظنوناً يحترزون منها خشية الغضاضة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏آتيك‏}‏ يجوز أن يكون فعلاً مضارعاً من أتى، وأن يكون اسم فاعل منه، والباء على الاحتمالين للتعدية‏.‏ ولمّا علم سليمان بأنها ستحضر عنده أراد أن يبهتها بإحضار عرشها الذي تفتخر به وتعده نادرة الدنيا، فخاطب ملأه ليظهر منهم منتهى علمهم وقوتهم‏.‏ فالباء في ‏{‏بعرشها‏}‏ كالباء في قوله‏:‏ ‏{‏فلنأتينّهم بجنود‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 37‏]‏ تحتمل الوجهين‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قال يا أيها الملؤا‏}‏ مستأنفة ابتداء لجزء من قصة‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏قال عفريت‏}‏ واقعة موقع جواب المحاورة ففصلت على أسلوب المحاورات كما تقدم غير مرة‏.‏ وجملة‏:‏ ‏{‏قال الذي عنده علم من الكتاب‏}‏ أيضاً جواب محاورة‏.‏

ومعنى ‏{‏عفريت‏}‏ حسبما يستخلص من مختلف كلمات أهل اللغة أنه اسم للشديد الذي لا يصاب ولا ينال، فهو يُتَّقى لشَره‏.‏ وأصله اسم لعُتاة الجن، ويوصف به الناس على معنى التشبيه‏.‏

و ‏{‏الذي عنده علم من الكتاب‏}‏ رجل من أهل الحكمة من حاشية سليمان‏.‏

و ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من الكتاب‏}‏ ابتدائية، أي عنده علم مكتسب من الكتب، أي من الحكمة، وليس المراد بالكتاب التوراة‏.‏ وقد عدّ في سفر الملوك الأول في الإصحاح الرابع أحد عشر رجلاً أهل خاصة سليمان بأسمائهم وذكر أهل التفسير والقصص أن‏:‏ ‏{‏الذي عنده علم من الكتاب‏}‏ هو «آصف بن برخيا» وأنه كان وزير سليمان‏.‏

وارتداد الطرف حقيقته‏:‏ رجوع تحديق العين من جهة منظورة تَحُول عنَها لحظة‏.‏ وعبر عنه بالارتداد لأنهم يعبرون عن النظر بإرسال الطرف وإرسال النظر فكان الارتداد استعارة مبنية على ذلك‏.‏

وهذه المناظرة بين العفريت من الجن والذي عنده علم من الكتاب ترمز إلى أنه يتأتى بالحكمة والعلم ما لا يتأتى بالقوة، وأن الحكمة مكتسبة لقوله‏:‏ ‏{‏عنده علم من الكتاب‏}‏، وأن قوة العناصر طبيعة فيها، وأن الاكتساب بالعلم طريق لاستخدام القوى التي لا تستطيع استخدام بعضها بعضاً‏.‏ فذكر في هذه القصة مثلاً لتغلب العلم على القوة‏.‏ ولما كان هذان الرجلان مسخرَيْن لسليمان كان ما اختصا به من المعرفة مزية لهما ترجع إلى فضل سليمان وكرامته أن سخر الله له مثل هذه القوى‏.‏

ومقام نبوته يترفع عن أن يباشر بنفسه الإتيان بعرش بلقيس‏.‏

والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏قبل أن تقوم من مقامك‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قبل أن يرتد إليك طرفك‏}‏ مثلان في السرعة والأسرعية، والضمير البارز في ‏{‏رءاه‏}‏ يعود إلى العرش‏.‏

والاستقرار‏:‏ التمكن في الأرض وهو مبالغة في القرار‏.‏ وهذا استقرار خاص هو غير الاستقرار العام المرادف للكون، وهو الاستقرار الذي يقدر في الإخبار عن المبتدأ بالظرف والمجرور ليكون متعلِّقاً بهما إذا وقعا خبراً أو وقعا حالاً، إذ يقدر ‏(‏كائن‏)‏ أو ‏(‏مستقر‏)‏ فإن ذلك الاستقرار ليس شأنه أن يصرح به‏.‏ وابن عطية جعله في الآية من إظهار المقدر وهو بعيد‏.‏

ولما ذَكر الفضل أضافه إلى الله بعنوان كونه ربّه لإظهار أن فضله عليه عظيم إذ هو عبد ربه‏.‏ فليس إحسان الله إليه إلا فضلاً محضاً، ولم يشتغل سليمان حين أحضر له العرش بأن يبتهج بسلطانه ولا بمقدرة رجاله ولكنه انصرف إلى شكر الله تعالى على ما منحه من فضل وأعطاه من جند مسخرين بالعلم والقوة، فمزايا جميعهم وفضلهم راجع إلى تفضيله‏.‏

وضرب حكمة خُلقية دينية وهي‏:‏ ‏{‏من شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كَفر فإن ربي غني كريم‏}‏؛ فكل متقرب إلى الله بعمل صالح يجب أن يستحضر أن عمله إنما هو لنفسه يرجو به ثواب الله ورضاه في الآخرة ويرجو دوام التفضل من الله عليه في الدنيا، فالنفع حاصل له في الدارين ولا ينتفع الله بشيء من ذلك‏.‏

فالكلام في قوله‏:‏ ‏{‏يشكر لنفسه‏}‏ لام الأجْل وليست اللام التي يُعدى بها فعل الشكر في نحو ‏{‏واشكُروا لي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 152‏]‏‏.‏ والمراد ب ‏{‏من كفر‏}‏ من كفر فضل الله عليه بأن عبَد غير الله، فإن الله غني عن شكره وهو كريم في إمهاله ورزقه في هذه الدنيا‏.‏ وقد تقدم عند قوله فيما تقدم‏:‏ ‏{‏قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 19‏]‏‏.‏

والعدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله‏:‏ ‏{‏فإن ربي غني كريم‏}‏ دون أن يقول‏:‏ فإنه غني كريم، تأكيد للاعتراف بتمحض الفضل المستفاد من قوله‏:‏ ‏{‏فضل ربي‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

هذا من جملة المحاورة التي جرت بين سليمان عليه السلام وبين ملئه، ولذلك لم يعطف لأنه جرى على طريقة المقاولة والمحاورة‏.‏

والتنكير‏:‏ التغيير للحالة‏.‏ قال جميل‏:‏

وقالوا نراها يا جميلُ تنكّرت *** وغيرها الواشي فقلت‏:‏ لعلها

أراد‏:‏ تنكرت حالة معاشرتها بسبب تغيير الواشين، بأن يغير بعض أوصافه، قالوا‏:‏ أراد مفاجأتها واختبار مظنتها‏.‏

والمأمور بالتنكير أهل المقدرة على ذلك من ملئه‏.‏

و ‏{‏من الذين لا يهتدون‏}‏ أبلغ في انتفاء الاهتداء من‏:‏ لا تهتدي، كما تقدم في نظائره غير مرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ ‏(‏42‏)‏ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا‏}‏‏.‏

دل قوله‏:‏ ‏{‏لما جاءت‏}‏ أنّ الملكة لما بلغها ما أجاب به سليمان رسلها أزمعت الحضور بنفسها لدى سليمان داخلة تحت نفوذ مملكته، وأنها تجهزت للسفر إلى أورشليم بما يليق بمثلها‏.‏

وقد طُوي خبر ارتحالها إذ لا غرض مُهِمّاً يتعلق به في موضع العبرة‏.‏ والمقصود أنها خضعت لأمر سليمان وجاءته راغبة في الانتساب إليه‏.‏

وبني فعل ‏{‏قيل‏}‏ للمجهول إذ لا يتعلق غرض بالقائل‏.‏ والظاهر أن الذي قال ذلك هو سليمان‏.‏

يجوز أن يكون عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏هذا من فضل ربي‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 40‏]‏ الآية وما بينهما اعتراضاً، أي هذا من قول سليمان‏.‏

ويجوز أن يكون عطفاً على قوله‏:‏ ‏{‏ننظر أَتهتدي‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 41‏]‏ الآية وما بينهما اعتراضاً كذلك، ويجوز أن يكون عطفاً على ‏{‏أهكذا عرشُك‏}‏ وما بينهما اعتراضاً به جوابها، أي وقيل أوتينا العلم من قبلها، أي قال القائل‏:‏ أهكذا عرشك، أي قال سليمان ذلك في ملئه عقب اختيار رأيها شكراً لله على ما لديه من العلم، أو قال بعض ملأ سليمان لبعض هذه المقالة‏.‏ ولعلهم تخافتوا به أو رَطنوه بلغتهم العبرية بحيث لا تفهمهم‏.‏ وقالوا ذلك بَهجين بأن فيهم من له من العلم ما ليس لملأ ملكة سبأ، أي لا ننسى بما نُشاهده من بَهرجات هذه الملكة أننا في حالة عقلية أفضل‏.‏ وأرادوا بالعلم علم الحكمة الذي علمه الله سليمان ورجال مملكته وتشاركهم بعض أهل سبأ في بعضه فقد كانوا أهل معرفة أنشأوا بها حضارة مبهتة‏.‏

فمعنى‏:‏ ‏{‏من قبلها‏}‏ إن حمل على ظاهره أن قومهم بني إسرائيل كانوا أسبق في معرفة الحكمة وحضارة الملك من أهل سبأ لأن الحكمة ظهرت في بني إسرائيل من عهد موسى، فقد سن لهم الشريعة، وأقام لهم نظام الجماعة، وعلمهم أسلوب الحضارة بتخطيط رسوم مساكنهم وملابسهم ونظام الجيش والحرب والمواسم والمحافل‏.‏ ثم أخذ ذلك يرتقي إلى أن بلغ غاية بعيدة في مدة سليمان، فبهذا الاعتبار كان بنو إسرائيل أسبق إلى علم الحكمة قبل أهل سبأ، وإن أريد ب ‏{‏مِن قبلها‏}‏ القبليةُ الاعتباريةُ وهي الفضل والتفوق في المزايا وهو الأليق بالمعنى كان المعنى‏:‏ إنَّا أوسع وأقوى منها علماً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ نحن الأولون السابقون بَيْد أنهم أوتوا الكتاب من قَبْلنا ‏"‏ أي نحن الأولون في غايات الهدى، وجعل مثلاً لذلك اهتداء أهل الإسلام ليوم الجمعة فقال‏:‏ «وهذا يومهم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله إليه»‏.‏ فكان الأرجح أن يكون معنى ‏{‏من قبلها‏}‏ أنّا فائتونها في العلم وبالغون ما لم تبلغه‏.‏ وزادوا في إظهار فضلهم عليها بذكر الناحية الدينية، أي وكنا مسلمين دونها‏.‏

وفي ذكر فعل الكون دلالة على تمكنهم من الإسلام منذ القدم‏.‏

وصدّها هي عن الإسلام ما كانت تعبد من دون الله، أي صدّها معبودها من دون الله، ومتعلق الصد محذوف لدلالة الكلام عليه في قوله‏:‏ ‏{‏وكنا مسلمين‏}‏‏.‏ وما كانت تعبده هو الشمس‏.‏ وإسناد الصدّ إلى المعبود مجاز عقلي لأنه سبب صدها عن التوحيد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما زادُوهم غير تتبيب‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 101‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏غَرَّ هؤلاء دينُهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 49‏]‏‏.‏

وفي ذكر فعل الكون مرتين في ‏{‏ما كانت تعبد‏}‏‏.‏ و‏{‏إنها كانت من قوم كافرين‏}‏ دلالة على تمكنها من عبادة الشمس وكان ذلك التمكن بسبب الانحدار من سلالة المشركين، فالشرك منطبع في نفسها بالوراثة، فالكفر قد أحاط بها بتغلغله في نفسها وبنشأتها عليه وبكونها بين قوم كافرين، فمن أين يخلص إليها الهدى والإيمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏كافرين * قِيلَ لَهَا ادخلى الصرح فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ‏}‏‏.‏

جملة‏:‏ ‏{‏قيل لها ادخلي الصرح‏}‏ استئناف ابتدائي لجزء من القصة‏.‏ وطوي ذكر ترحلها إلى وصولها في ذكر ما يدل عليه من حلولها أمام صرح سليمان للدخول معه إليه أو الدخول عليه وهو فيه‏.‏

لما أراها سليمان عظمة حضارته انتقل بها حيث تشاهد أثراً بديعاً من آثار الصناعة الحكيمة وهو الصرح‏.‏ والصرح يطلق على صحن الدار وعَرصتها‏.‏ والظاهر أن صرح القصر الذي ذكر في سفر الملوك الأول في الإصحاح السابع وهو بيت وَعْر له بابان كان يجلس فيه سليمان للقضاء بين الناس‏.‏

والقائل لها‏:‏ ‏{‏ادخلي الصرح‏}‏ هم الذين كانوا في رفقتها‏.‏

والقائل ‏{‏إنه صرح ممرد من قوارير‏}‏ هو سليمان كان مصاحباً لها أو كان يترقبها وزجاج الصرح المبلط به الصرح بينهما‏.‏

وذكر الدخول يقتضي أن الصرح مكان له باب‏.‏ وفي سفر الملوك الأول في الإصحاح العاشر‏:‏ فلما رأت البيت الذي بناه‏.‏

وحكاية أنها حسبته لجة عندما رأته تقتضي أن ذلك بدا لها في حين دخولها فدل على أن الصرح هو أول ما بدا لها من المدخل فهو لا محالة ساحة مَعْنِيّة للنزهة فرشت بزجاج شفاف وأجري تحته الماء حتى يخاله الناظر لُجّة ماء‏.‏ وهذا من بديع الصناعة التي اختصت بها قصور سليمان في ذلك الزمان لم تكن معروفة في اليمن على ما بلغته من حضارة وعظمة بناء‏.‏

وقرأ قنبل عن ابن كثير ‏{‏عن سأقيها‏}‏ بهمزة ساكنة بعد السين عوضاً عن الألف على لغة من يهمز حرف المدّ إذا وقع وسط الكلمة‏.‏ ومنه قول جرير‏:‏

لحَب المُؤقِداننِ إليَّ مؤسى *** وجعدة إذْ أضاءهما الوقود

فهمَز المؤقدان ومؤسى‏.‏ *** وكشف ساقيها كان من أجل أنها شمرت ثيابها كراهية ابتلالها بما حسبته ماء‏.‏ فالكشف عن ساقيها يجوز أن يكون بخلع خفيها أو نعليها، ويجوز أن يكون بتشمير ثوبها‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنها كانت لا تلبس الخفّين‏.‏ والممرّد‏:‏ المملس‏.‏

والقوارير‏:‏ جمع قارورة وهي اسم لإناء من الزجاج كانوا يجعلونه للخمر ليظهر للرائي ما قرّ في قعر الإناء من تفث الخمر فيظهر المقدار الصافي منها‏.‏ فسمى ذلك الإناء قارورة لأنه يظهر منه ما يقَرّ في قعره، وجمعت على قَوارير، ثم أطلق هذا الجمع على الطين الذي تتخذ منه القارورة وهو الزجاج، فالقوارير من أسماء الزجاج، قال بشار‏:‏

ارفُق بعمرو إذا حركْت نسبته *** فإنه عربي من قَوارير

يريد أن نسبته في العرب ضعيفة إذا حُرّكت تكسرت‏.‏ وقد تقدم ذكر الزجاج عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏المصباح في زجاجة‏}‏ في سورة النور ‏(‏35‏)‏‏.‏

بهرها ما رأت من آيات علمت منها أن سليمان صادق فيما دعاها إليه وأنه مؤيَّد من الله تعالى، وعلمت أن دينها ودين قومها باطل فاعترفت بأنها ظلمت نفسها في اتباع الضلال بعبادة الشمس‏.‏

وهذا درجة أولى في الاعتقاد وهو درجة التخلية، ثم صعدت إلى الدرجة التي فوقها وهي درجة التحَلّي بالإيمان الحق فقالت‏:‏ ‏{‏وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين‏}‏ فاعترفت بأن الله هو رب جميع الموجودات، وهذا مقام التوحيد‏.‏

وفي قولها‏:‏ ‏{‏مع سليمان‏}‏ إيمان بالدين الذي تقلده سليمان وهو دين اليهودية، وقد أرادت جمع معاني الدين في هذه الكلمة ليكون تفصيلها فيما تتلقاه من سليمان من الشرائع والأحكام‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قالت رب إني ظلمت نفسي‏}‏ جواب عن قول سليمان ‏{‏إنه صرح ممرّد من قوارير‏}‏ ولذلك لم تعطف‏.‏

والإسلام‏:‏ الانقياد إلى الله تعالى‏.‏ وتقلُّد بلقيس للتوحيد كان في خاصة نفسها لأنها دانت لله بذلك إذ لم يثبت أن أهل سبأ انخلعوا عن عبادة الأصنام كما يأتي في سورة سبأ‏.‏ وأما دخول اليهودية بلاد اليمن فيأتي في سورة البروج‏.‏ وسكت القرآن عن بقية خبرها ورجوعها إلى بلادها، وللقصاصين أخبار لا تصح فهذا تمام القصة‏.‏

ومكان العبرة منها الاتعاظ بحال هذه الملكة، إذ لم يصدّها علوّ شأنها وعظمة سلطانها مع ما أوتيته من سلامة الفطرة وذكاء العقل عن أن تنظر في دلائل صدق الداعي إلى التوحيد وتوقن بفساد الشرك وتعترف بالوحدانية لله، فما يكون إصرار المشركين على شركهم بعد أن جاءهم الهدي الإسلامي إلا لسخافة أحلامهم أو لعمايتهم عن الحق وتمسكهم بالباطل وتصلبهم فيه‏.‏ ولا أصل لما يذكره القصّاصون وبعض المفسرين من أن سليمان تزوج بلقيس، ولا أن له ولداً منها‏.‏ فإن رحبعام ابنَه الذي خلفه في الملك كان من زوجة عَمُّونِيَّة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

هذا مثل ثالث ضربه الله لحال المشركين مع المؤمنين وجعله تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن له أسوة بالرسل والأنبياء من قبله‏.‏

والانتقال من ذكر ملك سليمان وقصّة ملكة سبأ إلى ذكر ثمود ورسولهم دون ذكر عاد لمناسبة جِوار البلاد، لأن ديار ثمود كانت على تخوم مملكة سليمان وكانت في طريق السائر من سَبأ إلى فلسطين‏.‏

ألا ترى أنه أعقب ذكر ثمود بذكر قوم لوط وهم أدنى إلى بلاد فلسطين، فكان سياق هذه القصص مناسباً لسياق السائر من بلاد اليمن إلى فلسطين‏.‏ ولما كان ما حلّ بالقوم أهمَّ ذِكراً في هذا المقام قدم المجرور على المفعول لأن المجرور هو محل العبرة، وأما المفعول فهو محلّ التسلية، والتسلية غرض تَبَعيّ‏.‏

ولام القسم لتأكيد الإرسال باعتبار ما اتصل به من بقية الخبر؛ فإما أن يكون التأكيد لمجرد الاهتمام، وإما أن يبنى على تنزيل المخاطبين منزلة من يتردد فيما تضمنه الخبر من تكذيب قومه إياه واستخفافهم بوعيد ربّهم على لسانه‏.‏ وحلول العذاب بهم لأجل ذلك لأن حالهم في عدم العظة بما جرى للمماثلين في حالهم جعلهم كمن ينكر ذلك‏.‏

و ‏{‏أن أعبُدوا الله‏}‏ تفسير لما دل عليه ‏{‏أرسلنا‏}‏ من معنى القول‏.‏ وفرع على ‏{‏أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً‏}‏ إلخ ‏{‏إذا هم فريقان يختصمون‏}‏‏.‏ فالمعنى‏:‏ أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً لإنقاذهم من الشرك ففاجأ من حالهم أن أعرض فريق عن الإيمان وآمن فريق‏.‏

والإتيان بحرف المفاجأة كناية عن كون انقسامهم غير مرضي فكأنّه غير مترقب، ولذلك لم يقع التعرض لإنكار كون أكثرهم كافرين إشارة إلى أن مجرد بقاء الكفر فيهم كاف في قبْح فعلهم‏.‏ وحالهم هذا مساوٍ لحال قريش تجاه الرسالة المحمدية‏.‏ وأعيد ضمير ‏{‏يختصمون‏}‏ على المثنى وهو ‏{‏فريقان‏}‏ باعتبار اشتمال الفريقين على عدد كثير‏.‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ ولم يقل‏:‏ اقتتلتا‏.‏

والفريقان هما‏:‏ فريق الذين استكبروا، وفريق الذين استضعفوا وفيهم صالح‏.‏ والفاء للتعقيب وهو تعقيب بحسب ما يقتضيه العرف بعد سماع الدعوة‏.‏ والاختصام واقع مع صالح ابتداء، ومع أتباعه تبعاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

لما كان الاختصام بين الفريقين في شأن صالح ابتداء جيء بجواب صالح عما تضمنه اختصامهم من محاولتهم إفحامه بطلب نزول العذاب‏.‏ فمقول صالح هذا ليس هو ابتداء دعوته فإنه تقدم قوله‏:‏ ‏{‏أن اعبُدوا الله‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 45‏]‏ ولكنه جواب عمّا تضمنه اختصامهم معه، ولذلك جاءت جملة‏:‏ ‏{‏قال يا قوم‏}‏ مفصولة جرياً على طريقة المحاورة لأنها حكاية جواب عما تضمنه اختصامهم‏.‏

واقتصر على مراجعة صالح قومَه في شأن غرورهم بظنهم أن تأخر العذاب أمارة على كذب الذي توعدهم به فإنهم قالوا‏:‏ ‏{‏فآتنا بما تَعِدُنا إن كنتَ من الصادقين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 70‏]‏ كما حكي عنهم في سورة الأعراف لأن الغرض هنا موعظة قريش في قولهم‏:‏ ‏{‏فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ بحال ثمود المساوي لحالهم ليعلموا أن عاقبة ذلك مماثلة لعاقبة ثمود لتماثل الحالين قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمّى لجاءهم العذاب ولَيَأتِينّهم بغتة وهم لا يشعرون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 53‏]‏‏.‏

والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏لم تستعجلون‏}‏ إنكار لأخذهم بجانب العذاب دون جانب الرحمة‏.‏

ف ‏{‏السيئة‏}‏‏:‏ صفة لمحذوف، أي بالحالة السيئة، وكذلك ‏{‏الحسنة‏}‏‏.‏

فيجوز أن يكون المراد ب ‏{‏السيئة‏}‏ الحالة السيئة في معاملتهم إياه بتكذيبهم إياه‏.‏ والمراد بالحسنة ضدّ ذلك، أي تصديقهم لما جاء به، فالاستعجال‏:‏ المبادرة‏.‏ والباء للملابسة‏.‏ ومفعول ‏{‏تستعجلون‏}‏ محذوف تقديره‏:‏ تستعجلونني متلبسين بسيئة التكذيب‏.‏ والمعنى‏:‏ أنه أنكر عليهم أخذهم بطرف التكذيب إذ أعرضوا عن التدبر في دلائل صدقه، أي إن كنتم مترددين في أمري فافرضوا صدقي ثم انظروا‏.‏ وهذا استنزال بهم إلى النظر بدلاً عن الإعراض، ولذلك جمع في كلامه بين السيئة والحسنة‏.‏

ويجوز أن يكون المراد ب ‏{‏السيئة‏}‏ الحالةَ السيئة التي يترقبون حلولها، وهي ما سألوا من تعجيل العذاب المحكي عنهم في سورة الأعراف، وب ‏{‏الحسنة‏}‏ ضد ذلك أي حالة سلامتهم من حلول العذاب ف ‏{‏السيئة‏}‏ مفعول ‏{‏تستعجلون‏}‏ والباء مزيدة لتأكيد اللصوق مثل ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ إنكار جعلهم تأخيرَ العذاب أمارةً على كذب الوعيد به وأن الأولى بهم أن يجعلوا امتداد السلامة أمارة على إمهال الله إياهم فيتقوا حلول العذاب، أي لِمَ تبْقَون على التكذيب منتظرين حلول العذاب، وكان الأجدر بكم أن تبادروا بالتصديق منتظرين عدم حلول العذاب بالمرة‏.‏ وعلى كلا الوجهين فجواب صالح إياهم جار على الأسلوب الحكيم بجعل يقينهم بكذبه محمولاً على ترددهم بين صدقه وكذبه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قبل الحسنة‏}‏ حال من ‏{‏السيئة‏}‏‏.‏ وهذا تنبيه لهم على خطئهم في ظنهم أنه لو كان صالح صادقاً فيما توعدهم به لعَجّل لهم به، فما تأخيره إلا لأنه ليس بوعيد حق، لأن العذاب أمر عظيم لا يجوز الدخول تحت احتماله في مجاري العقول‏.‏ فالقبلية في قوله‏:‏ ‏{‏قبل الحسنة‏}‏ مجاز في اختيار الأخذ بجانب احتمال السيئة وترجيحه على الأخذ بجانب الحسنة، فكأنهم بادروا إليها فأخذوها قبل أن يأخذوا الحسنة‏.‏

وظاهر الاستفهام أنه استفهام عن علة استعجالهم، وإنما هو استفهام عن المعلول كناية عن انتفاء ما حقه أن يكون سبباً لاستعجال العذاب، فالإنكار متوجه للاستعجال لا لعلته‏.‏

ثم أُعقب الإنكار المقتضي طلب التخلية عن ذلك بتحريضهم على الإقلاع عن ذلك بالتوبة وطلب المغفرة لما مضى منهم ويرجون أن يرحمهم الله فلا يعذبهم، وإن كان ما صدر منهم موجباً لاستمرار غضب الله عليهم، إلا أن الله برحمته جعل التائب من الذنب كمن لم يذنب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

هذا من محاورتهم مع صالح فلذلك لم يُعطف فعلا القول وجاء على سنن حكاية أقوال المحاورات كما بيّناه غير مرة‏.‏

وأصل ‏{‏اطيرنا‏}‏ تَطيّرنا فقلبت التاء طاء لقرب مخرجيهما وسكنت لتخفيف الإدغام وأدخلت همزة الوصل لابتداء الكلمة بساكن، والباء للسببية‏.‏

ومعنى التطير‏:‏ التشاؤم‏.‏ أطلق عليه التطيّر لأن أكثره ينشأ من الاستدلال بحركات الطير من سَانح وبارح‏.‏ وكان التَطيّر من أوهام العرب وثمود من العرب، فقولهم المحكي في هذه الآية حُكي به مماثله من كلامهم ولا يريدون التطيّر الحاصل من زجر الطير لأنه يمنع من ذلك قولهم‏:‏ ‏{‏بك وبمن معك‏}‏ وقد تقدم مثله عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن تصبهم سيئة يَطَّيَّروا بموسى ومن معه‏}‏ في سورة الأعراف ‏(‏131‏)‏‏.‏ وتقدم معنى الشؤم هنالك‏.‏

وأجاب صالح كلامهم بأنه ومَن معه ليسُوا سبب شُؤم ولكن سبب شؤمهم وحلول المضار بهم هو قدرة الله‏.‏

واستعير لما حلّ بهم اسمُ الطائر مشاكلَة لقولهم اطيرنا بك وبمن معك‏}‏، ومخاطبةً لهم بما يفهمون لإصلاح اعتقادهم، بقرينة قولهم ‏{‏اطيرنا بك‏}‏‏.‏

و ‏{‏عند‏}‏ للمكان المجازي مستعاراً لتحقّق شأن من شؤون الله به يقدر الخير والشر وهو تصرف الله وقدرُه‏.‏ وقد تقدم نظيره في الأعراف‏.‏

وأضرب ب ‏{‏بل‏}‏ عن مضمون قولهم‏:‏ ‏{‏اطيرنا بك وبمن معك‏}‏ بأن لا شؤم بسببه هو وسبب من معه ولكن الذين زعموا ذلك قوم فتنهم الشيطان فتنة متجددة بإلقاء الاعتقاد بصحة ذلك في قلوبهم‏.‏

وصِيَغ الإخبار عنهم بأنهم مفتونون بتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لتقوي الحكم بذلك‏.‏ وصيغ المسند فعلاً مضارعاً لدلالته على تجدد الفتون واستمراره‏.‏

وغلب جانب الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏تفتنون‏}‏ على جانب الغيبة مع أن كليهما مقتضى الظاهر ترجيحاً لجانب الخطاب لأنه أدل من الغيبة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 49‏]‏

‏{‏وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ ‏(‏48‏)‏ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

عطف جزء القصة على جزء منها‏.‏ و‏{‏المدينة‏}‏‏:‏ هي حِجْر ثمود بكسر الحاء وسكون الجيم المعروف مكانُها اليوم بديار ثمود ومدائن صالح، وهي بقايا تلك المدينة من أطلال وبيوت منحوتة في الجبال‏.‏ وهي بين المدينة المنورة وتبوك في طريق الشام وقد مرّ بها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في مسيرهم في غزوة تبوك ورأوا فيها آباراً نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب والوضوء منها إلا بئراً واحدة أمرهم بالشرب والوضوء بها وقال‏:‏ ‏"‏ إنها البئر التي كانت تشرب منها ناقة صالح ‏"‏

والرهط‏:‏ العدد من الناس حوالي العشرة وهو مِثل النَفر‏.‏ وإضافة تسعة إليه من إضافة الجزء إلى اسم الكل على التوسع وهو إضافة كثيرة في الكلام العربي مثل‏:‏ خمس ذود‏.‏ واختلف أيمة النحو في القياس عليها، ومذهب سيبويه والأخفش أنها سماعية‏.‏

وكان هؤلاء الرهط من عتاة القوم، واختلف في أسمائهم على روايات هي من أوضاع القصّاصين ولم يثبت في ذلك ما يعتمد‏.‏ واشتهر أن الذي عقر الناقة اسمه «قُدَار» بضم القاف وتخفيف الدال، وقد تشاءم بعض الناس بعدد التسعة بسبب قصة ثمود وهو من التشاؤم المنهي عنه‏.‏

و ‏{‏الأرض‏}‏‏:‏ أرض ثمود فالتعريف للعهد‏.‏

وعطف ‏{‏لا يصلحون‏}‏ على ‏{‏يفسدون‏}‏ احتراس للدلالة على أنهم تمحّضوا للإفساد ولم يكونوا ممن خلطوا إفساداً بإصلاح‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قالوا‏}‏ صفة ل ‏{‏تسعة‏}‏، أو خبر ثان ل ‏{‏كان‏}‏، أو هو الخبر ل ‏{‏كان‏}‏‏.‏ وفي ‏{‏المدينة‏}‏ متعلق ب ‏{‏كان‏}‏ ظرفاً لغواً ولا يحسن جعل الجملة استئنافاً لأنها المقصود من القصة والمعنى‏:‏ قَال بعضهم لبعض‏.‏

و ‏{‏تقاسموا‏}‏ فعل أمر، أي قال بعضهم‏:‏ تقاسموا، أي ابتدأ بعضهم فقال‏:‏ تقاسموا‏.‏ وهو يريد شمول نفسه إذ لا يأمرهم بذلك إلا وهو يريد المشاركة معهم في المقسم عليه كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏لنبيتنه‏}‏‏.‏ فلما قال ذلك بعضهم توافقوا عليه وأعادوه فصار جميعهم قائلاً ذلك فلذلك أسند القول إلى التسعة‏.‏

والقَسَم بالله يدل على أنهم كانوا يعترفون بالله ولكنهم يشركون به الآلهة كما تقدم في قصصهم فيما مرّ من السور‏.‏

و ‏{‏لنُبَيّتَنّهُ‏}‏ جواب القسم، والضمير عائد إلى صالح‏.‏ والتبييت والبيات‏:‏ مباغتة العدوّ ليلاً‏.‏ وعكسه التصبيح‏:‏ الغارة في الصباح، وكان شأن الغارات عند العرب أن تكون في الصباح، ولذلك يقول مَن ينذر قوماً بحلول العدوّ‏:‏ «يَا صبَاحَاهُ»، فالتبييت لا يكون إلا لقصد غدْر‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم يغيرون على بيته ليلاً فيقتلونه وأهلَه غدْراً من حيث لا يُعرف قاتله ثم ينكرون أن يكونوا هم قتلوهم ولا شهدوا مقتلهم‏.‏

والمُهلك‏:‏ مصدر ميمي من أهلك الرباعي، أي شهدنا إهلاك من أهلكهم‏.‏ وقولهم‏:‏ ‏{‏وإنا لصادقون‏}‏ هو من جملة ما هيَّأوا أن يقولوه فهو عطف على ‏{‏ما شهدنا مهلك‏}‏ أي ونؤكد إنّا لصادقون‏.‏

ولم يذكروا أنهم يحلفون على أنهم صادقون‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏لنُبيّتنَّه‏}‏ بنون الجماعة وفتح التاء التي قبل نون التوكيد‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف بتاء الخطاب في أوله وبضم التاء الأصلية قبل نون التوكيد‏.‏ وذلك على تقدير‏:‏ أمر بعضهم لبعض‏.‏ وهكذا قرأ الجمهور ‏{‏لنقولَنَّ‏}‏ بنون الجماعة في أوله وفتح اللام‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي وخلف بتاء الخطاب وبضم اللام‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏مُهْلَك‏}‏ بضم الميم وفتح اللام وهو مصدر الإهلاك أو مكانُه أو زمانه‏.‏ وقرأه حفص بفتح الميم وكسر اللام ويحتمل المصدر والمكان والزمان‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم بفتح الميم وفتح اللام فهو مصدر لا غير‏.‏

ووليُّ صالح هم أقرب القوم له إذا راموا الأخذ بثأره‏.‏

وهذا الجزء من قصة ثمود لم يذكر في غير هذه السورة‏.‏ وأحسب أن سبب ذكره أن نزول هذه السورة كان في وقتتٍ تآمرَ فيه المشركون على الإيقاع بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو التآمر الذي حكاه الله في قوله‏:‏ ‏{‏وإذ يمكُرُ بك الذين كفروا ليُثْبِتُوك أو يَقْتُلُوك أو يُخْرِجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏؛ فضرب الله لهم مثلاً بتآمر الرهط من قوم صالح عليه ومكرِهم وكيف كان عاقبة مكرهم، ولذلك ترى بين الآيتين تشابهاً وترى تكرير ذكر مكرهم ومكر الله بهم، وذكر أن في قصتهم آية لقوم يعلمون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 53‏]‏

‏{‏وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏50‏)‏ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏51‏)‏ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏52‏)‏ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

سمَّى الله تآمرهم مكراً لأنه كان تدبير ضُرّ في خفاءٍ‏.‏ وأكد مكرهم بالمفعول المطلق للدلالة على قوته في جنس المكر، وتنوينه للتعظيم‏.‏

والمكر الذي أسند إلى اسم الجلالة مكر مجازي‏.‏ استعير لفظ المكر لمبادرة الله إياهم باستئصالهم قبل أن يتمكنوا من تبييت صالح وأهله، وتأخيره استئصالهم إلى الوقت الذي تآمروا فيه على قتل صالح لشَبَه فِعللِ الله ذلك بفعل الماكر في تأجيل فعل إلى وقت الحاجة، مع عدم إشعار من يُفعل به‏.‏

وأُكد مكر الله وعُظّم كما أكد مكرهم وعُظّم، وذلك بما يناسب جنسه، فإن عذاب الله لا يدانيه عذاب الناس فعظيمه أعظم من كل ما يقدره الناس‏.‏

والمراد بالمكر المسند إلى الجلالة هو ما دلت عليه جملة‏:‏ ‏{‏إنا دمرناهم وقومهم أجمعين‏}‏ الآية‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ تأكيد لاستعارة المكر لتقدير الاستئصال فليس في ذلك ترشيحٌ للاستعارة ولا تجريد‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏فانظر‏}‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم واقترانه بفاء التفريع إيماء إلى أن الاعتبار بمكر الله بهم هو المقصود من سَوْق القصة تعريضاً بأن عاقبة أمره مع قريش أن يكفّ عنه كيدَهم وينصره عليهم، وفي ذلك تسلية له على ما يلاقيه من قومه‏.‏

والنظر‏:‏ نظر قلبي، وقد علق عن المفعولين بالاستفهام‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏إنا دمرناهم‏}‏ بكسر الهمزة فتكون الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لما يثيره الاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏كيف كان عاقبة مكرهم‏}‏ من سؤال عن هذه الكيفية‏.‏ والتأكيد للاهتمام بالخبر‏.‏ وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف بفتح الهمزة فيكون المصدر بدلاً من ‏{‏عاقبة‏}‏‏.‏ والتأكيد أيضاً للاهتمام‏.‏

وضمير الغيبة في ‏{‏دمرناهم‏}‏ للرهط‏.‏ وعطف قومهم عليهم لموافقة الجزاء للمجزيّ عليه لأنهم مكروا بصالح وأهلِه فدمّرهم الله وقومهم‏.‏

والتدمير‏:‏ الإهلاك الشديد، وتقدم غير مرة منها في سورة الشعراء‏.‏

والقصة تقدمت‏.‏ وتقدم إنجاء صالح والذين آمنوا معه وذلك أن الله أوحى إليه أن يخرج ومن معه إلى أرض فلسطين حين أنذر قومه بتمتع ثلاثة أيام‏.‏

وتفريع قوله‏:‏ ‏{‏فتلك بيوتهم خاوية‏}‏ على جملة‏:‏ ‏{‏دمرناهم‏}‏ لتفريع الإخبار‏.‏ والإشارة منصرفة إلى معلوم غير مشاهد لأن تحققه يقوم مقام حضوره فإن ديار ثمود معلومة لجميع قريش وهي في طريقهم في ممرّهم إلى الشام‏.‏

وانتصب ‏{‏خاوية‏}‏ على الحال‏.‏ وعاملها ما في اسم الإشارة من معنى الفعل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهذا بعْلِي شيخاً‏}‏ وقد تقدم في سورة هود ‏(‏72‏)‏‏.‏

والخاوية‏:‏ الخالية، ومصدره الخَواء، أي فالبيوت باق بعضها في الجبال لا ساكن بها‏.‏

والباء في بما ظلموا‏}‏ للسببية، و‏(‏ما‏)‏ مصدرية، أي كان خَواؤها بسبب ظلمهم‏.‏ والظلم‏:‏ الشرك وتكذيب رسولهم، فذلك ظلم في جانب الله لأنه اعتداء على حق وحدانيته، وظلم للرسول بتكذيبه وهو الصادق‏.‏

ولما خص الله عملهم بوصف الظلم من بين عدة أحوال يشتمل عليها كفرهم كالفساد كان ذلك إشارة إلى أن للظلم أثراً في خراب بلادهم‏.‏

وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ أجد في كتاب الله أن الظلم يخرّب البيوت وتلا‏:‏ ‏{‏فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا‏}‏‏.‏ وهذا من أسلوب أخذ كل ما يُحتمل من معاني الكلام في القرآن كما ذكرناه في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير‏.‏

ونزيده هنا ما لم يسبق لنا في نظائره، وهو أن الحقائق العقلية لما كان قوام ماهياتها حاصلاً في الوجود الذهني كان بين كثير منها انتساب وتقارب يُردّ بعضها إلى بعض باختلاف الاعتبار‏.‏ فالشرك مثلاً حقيقة معروفة يكون بها جنساً عقلياً وهو بالنظر إلى ما يبعث عليه وما ينشأ عنه ينتسب إلى حقائق أخرى مثل الظلم، أي الاعتداء على الناس بأخذ حقوقهم فإنه من أسبابه، ومثل الفسق فإنه من آثاره، وكذلك التكذيب فإنه من آثاره أيضاً‏:‏ ‏{‏وذرني والمكذبين‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 11‏]‏، ومثل الكبر ومثل الإسراف فإنهما من آثاره أيضاً‏.‏ فمن أساليب القرآن أن يعبر عن الشرك بألفاظ هذه الحقائق للإشارة إلى أنه جامع عدة فظائع، وللتنبيه على انتسابه إلى هذه الأجناس، وليعلم المؤمنون فساد هذه الحقائق من حيث هي فيعبر عنه هنا بالظلم وهو كثير ليعلم السامع أن جنس الظلم قبيح مذموم، ناهيك أن الشرك من أنواعه‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏إن الله لا يهدي من هو مُسرف كذّاب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 28‏]‏ أي هو متأصل في الشرك وإلا فإن الله هدى كثيراً من المسرفين والكاذبين بالتوبة، ومن قوله‏:‏ ‏{‏أليس في جهنم مثوى للمتكبرين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 60‏]‏ ونحو ذلك‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآية‏}‏ معترضة بين الجمل المتعاطفة‏.‏ والإشارة إلى ما ذكر من عاقبة مكرهم‏.‏ والآية‏:‏ الدليل على انتصار الله لرسله‏.‏

واللام في ‏{‏لقوم يعلمون‏}‏ لام التعليل يعني آية لأجلهم، أي لأجل إيمانهم‏.‏ وفيه تعريض بأن المشركين الذين سبقت إليهم هذه الموعظة إن لم يتعظوا بها فهم قوم لا يعلمون‏.‏

وفي ذكر كلمة ‏(‏قوم‏)‏ إيماء إلى أن من يعتبر بهذه الآية متمكن في العقل حتى كان العقل من صفته القومية، كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لآيات لقوم يعقلون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏.‏

وفي تأخير جملة‏:‏ وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون‏}‏ عن جملة‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لآية لقوم يعلمون‏}‏ طمأنة لقلوب المؤمنين بأن الله ينجيهم مما توعد به المشركين كما نجى الذين آمنوا وكانوا يتّقون من ثمود وهم صالح ومن آمن معه‏.‏ وقيل‏:‏ كان الذين آمنوا مع صالح أربعة آلاف، فلما أراد الله إهلاك ثمود أوحى الله إلى صالح أن يخرج هو ومن معه فخرجوا ونزلوا في موضع الرسّ فكان أصحاب الرسّ من ذرياتهم‏.‏ وقيل‏:‏ نزلوا شاطئ اليمن وبنوا مدينة حَضرموت‏.‏ وفي بعض الروايات أن صالحاً نزل بفلسطين‏.‏ وكلها أخبار غير موثوق بها‏.‏

وزيادة فعل الكون في ‏{‏وكانوا يتقون‏}‏ للدلالة على أنهم متمكّنون من التقوى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 55‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ‏(‏54‏)‏ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

عطف ‏{‏لوطاً‏}‏ على ‏{‏صالحاً‏}‏ في قوله السابق ‏{‏ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 45‏]‏‏.‏ ولا يمنع من العطف أن العامل في المعطوف تعلق به قوله‏:‏ ‏{‏إلى ثمود‏}‏ لأن المجرور ليس قيداً لمتعلَّقه، ولكنه كواحد من المفاعيل فلا ارتباط له بالمعطوف على مفعول آخر‏.‏ فإن الإتْباع في الإعراب يميز المعطوف عليه من غيره‏.‏ وقد سبق نظير هذا في سورة الأعراف‏.‏ ولم يُذكر المرسل إليهم هنا كما ذكر في قصة ثمود لعدم تمام المشابهة بين قوم لوط وبين قريش فيما عدا التكذيب والشرك‏.‏ ويجوز أن ينصب ‏{‏ولوطاً‏}‏ بفعل مقدّر تقديره‏:‏ واذكر لوطاً، لأن وجود ‏{‏إذ‏}‏ بعده يقربه من نحو‏:‏ ‏{‏وإذ قال ربّك للملائكة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وتعقيب قصة ثمود بقصة قوم لوط جار على معتاد القرآن في ترتيب قصص هذه الأمم، فإن قوم لوط كانوا متأخرين في الزمن عن ثمود‏.‏

وإنما الذي يستثير سؤالاً هنا هو الاقتصار على قصة قوم لوط دون قصة عاد وقصة مدين‏.‏ وقد بينته آنفاً أنه لمناسبة مجاورة ديار قوم لوط لمملكة سليمان ووقوعها بين ديار ثمود وبين فلسطين وكانت ديارهم ممرّ قريش إلى بلاد الشام، قال تعالى ‏{‏وإنها لبسبيل مقيم‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 76‏]‏ وقال ‏{‏وإنكم لتَمُرُّون عليهم مُصْبِحين وبالليل أفلا تعقلون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 137، 138‏]‏‏.‏

وظرف ‏{‏إذ‏}‏ يتعلق ب ‏(‏أرسلنا‏)‏ أو ب ‏(‏اذكر‏)‏ المقدّرْين‏.‏ والاستفهام في ‏{‏أتأتون‏}‏ إنكاري‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وأنتم تبصرون‏}‏ حالٌ زيادة في التشنيع، أي تفعلون ذلك علَناً يبصر بعضكم بعضاً، فإن التجاهر بالمعصية معصية لأنه يدل على استحسانها وذلك استخفاف بالنواهي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أئنكم لتأتون‏}‏ تقدم في الأعراف ‏(‏81‏)‏ ‏{‏إنكم لتأتون، فهنا جيء بالاستفهام الإنكاري، وما في الأعراف جاء الخبر المستعمل في الإنكار، فيجوز أن يكون اختلاف الحكاية لاختلاف المحكي بأن يكون لوط قد قال لهم المقالتين في مقامين مختلفين‏.‏ ويجوز أن يكون اختلاف الحكاية تفنناً مع اتحاد المعنى‏.‏ وكلا الأسلوبين يقع في قصص القرآن، لأن في تغيير الأسلوب تجديداً لنشاط السامع‏.‏

على أن ابن كثير وأبا عمرو وابن عامر وحمزة وأبا بكر عن عاصم قرأوا ما في سورة الأعراف بهمزتين فاستوت الآيتان على قراءة هؤلاء‏.‏ وقد تقدمت وجوه ذلك في سورة الأعراف‏.‏

ووقع في الأعراف ‏(‏80‏)‏ ‏{‏أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين‏}‏ ولم يذكر هنا لأن ما يجري في القصة لا يلزم ذكر جميعه‏.‏ وكذلك القول في عدم ذكر وأنتم تبصرون‏}‏ في سورة الأعراف مع ذكره هنا‏.‏

ونظير بقية الآية تقدم في سورة الأعراف، إلاّ أن الواقع هنا ‏{‏بل أنتم قوم تجهلون‏}‏، فوصفهم بالجهالة وهي اسم جامع لأحوال أَفن الرأي وقساوة القلب‏.‏

وفي الأعراف وصفهم بأنهم قوم مسرفون وذلك يحمل على اختلاف المقالتين في مقامين‏.‏

وفي إقحام لفظ ‏{‏قوم‏}‏ في الآيتين من الخصوصية ما تقدم آنفاً في قوله في هذه السورة ‏{‏إن في ذلك لآية لقوم يعلمون‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 52‏]‏‏.‏

ورُجّح في قوله‏:‏ ‏{‏تجهلون‏}‏ جانب الخطاب على جانب الغيبة فلم يقل‏:‏ يَجهلون، بياء الغيبة وكلاهما مقتضى الظاهر لأن الخطاب أقوى دلالة كما قرئ في قوله‏:‏ ‏{‏بل أنتم قوم تُفتنون‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 47‏]‏‏.‏